نهاية الشهر المنصرم، لاحظ مستخدمي شبكة الإنترنت الدولية في السلطنة حجب هيئة الإدعاء العام للموقع الحواري [ الحارة العُمانية ] الذي تميز بتغطيته المثيرة للجدل لبعض الأحداث التي عصفت بالسلطنة مؤخراً .
لا شك أن حجب [ موقع عُماني ] له شهرته ومتابعيه يضع علامة استفهامٍ كبرى حول التوجه القادم لكيفية التعامل الحكومي الرسمي مع الفضاء الإلكتروني، في ظل علاقةٍ توصف [ بالمشوشة ] بين إدارة وكُتّاب المنتديات والمدونات والمواقع بشكل عام من جهة، وبين هيئة الإدعاء العام والجهات الأخرى ذات العلاقة من جهةٍ أخرى، وهذه العلاقة المشوشة لها ثلاثة أسبابٍ رئيسية : الأول: تفاوت فهم مصطلح [ حرية التعبير ] بين الأطراف: لا يوجد اتفاقٌ واضح أو حتى شبه واضح على مصطلح [ حرية التعبير ] بين طرفي المسألة، ففي حين ينشد رواد العالم الافتراضي الحرية بمفهوم الجوهر الغير القابل للتجزئة، تنشد الجهات الرسمية وبعض الجهات الشعبية مفهوم الحرية المسئولة، ورغم أن نقاط الالتقاء بين الطرفين كثيرة، إلا أن مطاطية المصطلحات والمفاهيم، وتفسير الأمور وفقاً للأفكار الخاصة لكل طرف ساهم في تباعد فهم الطرفين لبعضهما، والدخول في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل، فمثلاً بعض ما يعتبره رواد الفضاء الإلكتروني فساداً يدور في بعض الوحدات الحكومية والخاصة، وحول بعض الشخصيات العامة، تعتبره هيئة الإدعاء العام وجهاتٍ أخرى ذات علاقة قذفاً واتهاماً بلا دليل، قد تكون المسألة واضحة أحياناً عندما يطرح موضوع يحمل ألفاظاً يرفضها عرف مجتمعنا العُماني، وتعتبر في عقله الجمعي نوعاً من عدم الاحترام وانعدام اللياقة في التعامل مع الطرف الآخر، لكن الأمور تعود للتلبد مجدداً عندما يكون الطرح رصيناً لكنه يحمل ما يعتبره كاتب الموضوع [ حقائق مؤلمة ] يعرضها كما هي، ويعتبرها الطرف الآخر قذفاً وانتقاصاًً.
الثاني: غياب وسائل الإعلام البديلة: ينظر بعض المواطنين، خصوصاً فئة الشباب، لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، الرسمية وشبه الرسمية، أنها لا تحقق الهدف المنشود من إيجادها لهم، خصوصاً أوقات الأزمات، حيث أنها دائماً ما تصطدم بمقص الرقيب والأوامر الرسمية والمجاملات الاجتماعية، وقانون المطبوعات والنشر الذي تجاوزه الزمن، وأصبحت الاتهامات تكال للتلفاز الرسمي باعتباره يمثل رأي أقلية منحازة لأفكارها الخاصة، ومغيبةً لرأي الشارع العُماني الآخر، ومع انتشار خدمة الإنترنت في السلطنة، ومعرفة كيفية التعامل معها، خصوصاً من قبل الأجيال الشابة التي تشكل النسبة الأعلى من السكان، أصبحت هي الوسيلة الإعلامية الأكثر جاذبية، حيث يجدون ما يصفونه [ بالسقف العالي للحرية البعيد عن مقص الرقيب ]، ذلك أننا نجد من خلال متابعةٍ بسيطة لما يطرح في المنتديات والمدونات والمواقع الاجتماعية كـ[Face Book] وغيره، أن الجميع يكتب ويحلل وينتقد وفقاً لمستواه العمري والعقلي، في ظل ضوابط بسيطة ومرنة، يستغلها البعض أحياناً للقيام بتجاوزاتٍ في حق الآخرين. يمكن القول أن المشهد الإعلامي قد تغير وللأبد بدخول شبكة الإنترنت في الحياة اليومية للإنسان المعاصر، لا في السلطنة فحسب ولكن في العالم ككل، فلم يعد المراسل الصحفي هو من تعينه وزارة الإعلام، وإنما أصبح كل مواطن يمتلك جهاز كمبيوتر ووسيلة لدخول شبكة الإنترنت مراسلاً صحفياً بالكيفية التي يريد، والوقت الذي يرغب، ومع هذا الكم الكبير من المراسلين الافتراضيين، أصبحت الأخبار الواردة من مختلف أنحاء البلاد أكثر غزارة وسرعة، وأقل تحكماً بها، علماً أن كثيراً من هذا السيل الإخباري يتصف بعدم الدقة، وبأنه مبني على السماع، بينما القلة القليلة منه يتصف بالمصداقية، وهناك من يرى أن هذا ناتجٌ عن عجز التشريعات المنظمة لحرية التعبير والصحافة في البلد من مواكبة التغيرات التي يشهدها الإعلام على مستوى العالم، وعجز وسائل الإعلام التقليدية عن اللحاق بنبض الشارع .
الثالث: القوانين المنظمة للاتصالات والجرائم الإلكترونية في السلطنة: ينظم المشرع العُماني الاتصالات، والجرائم الإلكترونية المرتبطة بها، بقانونين رئيسين هما: قانون تنظيم الاتصالات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم [30/2000]، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم [ 12/2011] . والحق أن قانون تنظيم الاتصالات خضع لتعديلين، حرص آخرهما، والذي صدر بالمرسوم السلطاني رقم [59/2008]، على عدم إفلات أصحاب المواقع ومدرائها والمشرفين عليها والمشاركين فيها [ خصوصاً المواقع الحوارية ] من الإفلات من العقاب حيث نص البند [4] في المادة [61] على أنه: (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن سنة، وبغرامة لا تزيد على ألف ريال عُماني، أو إحدى هاتين العقوبتين...4- كل شخص طبيعي أو معنوي صاحب موقع أو مدير له أو المشرف عليه إذا حرض أو وافق على نشر الرسائل الواردة بالبند (3) من هذه المادة عن طريق شبكة الاتصالات أو ساعد عليه بعمل إيجابي أو سلبي( ) ) . أما قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات فنجد أنه خطى خطوةً أخرى للأمام بإيجاد مادةٍ قانونية تخول المحكمة المختصة غلق الموقع الإلكتروني محل وقوع الجريمة بشكلٍ دائم أو مؤقت، حيث نص البند (ب) في المادة [32] منه على أنه: (دون إخلال بحقوق الغير حسن النية،على المحكمة المختصة الحكم في جميع الأحوال.... ب- غلق الموقع الإلكتروني والمحل الذي ارتكبت فيه جريمة تقنية المعلومات أو الشروع فيها، إذا كانت الجريمة قد ارتكبت بعلم مالكه وعدم اعتراضه، ويكون الغلق دائماً أو مؤقتا المدة التي تقدرها المحكمة في ضوء ظروف وملابسات الجريمة....) .
نلاحظ أن مواد القانونين السابقين يتشددان مع مرتادي شبكة الإنترنت، أياً كانت صفتهم أو فئتهم العمرية أو نوع الجريمة المرتكبة، إلى الدرجة التي يعاقبون فيها بعقوبة سالبة للحرية الشخصية [ الحبس ]، مع إمكانية غلق الموقع الإلكتروني بشكلٍ دائم أو مؤقت، وقد دفع كل ما ذكر سابقاً مرتادي شبكة المعلومات الدولية لمحاولة إيجاد طرق بديلة تقيهم شر القانونين المذكورين، من بينها تخفي أصحاب المواقع أو المشرفين عليها، وعدم تسجيل مواقعهم في السلطنة، كذلك استخدام بعض البرامج التي تلتف على مزود خدمة الإنترنت المحلي وتظهرهم كأنهم يستخدمون الإنترنت من دول خارج السلطنة، ناهيك أن بعض المواقع العالمية كالفيس بوك، من الصعب فرض سلطة محلية عليها، أو الوصول لبيانات مستخدميها، إلا بحظرها نهائياً .
ترى الجهات المختصة في السلطنة أن هذه القوانين ضرورية لحفظ علاقة متوازنة بينها وبين مستخدمي الإنترنت، بحيث لا يلحق استخدام هذه الشبكة أضراراً جسيمة بحق الغير شخصياً كان أو معنوياً، بينما يرى بعض المواطنين- خصوصاً فئة الشباب- أن هذه القوانين هدفها تكبيل حريتهم، قائلين أن أي قانون يصدر يفترض أن يراعي كافة الأطراف، بحيث أن المستهدفين به يجب أن يكونوا أول من يبدي رأيهم فيه وهذا ما لم يحدث، ولذلك يرون أن تطرح هذه القوانين مجدداً للنقاش أمام مجلسي الشورى والدولة تمهيداً لرفع التوصيات المناسبة بشأنها ومن ثم تعديلها بما يوائم تصورات مختلف أطراف القضية حولها، بدلاً من أن تصدر من جانب واحد كما هو حاصلٌ الآن .
هل حظر المواقع الإلكترونية هو الحل الأمثل ؟
في ظل التسارع الكبير الذي تشهده صناعة تقنية المعلومات، لا يمكن القول أن حجب المواقع الإلكترونية [ الحارة العُمانية مثالاً ] سيكون هو الحل الأمثل للقضايا الجرمية المرتبطة بها، حيث يمكن إعادة الموقع بكل بساطة من خلال دومين [Domain] جديد، أو من خلال استخدام مواقع وسيطة، أو حتى إنشاء موقع جديد، كما أنه يتوقع خلال السنوات الـ15 القادمة أن تخرج الرقابة على الإنترنت من نطاق سيطرة الحكومات المحلية، حيث يتوقع أن تزود الشركات العالمية مختلف سكان العالم بخدمة الإنترنت من خلال الأقمار الصناعية والصحون اللاقطة فقط من غير حاجة للمزود المحلي، وهذه الخدمة موجودة حالياً لكنها لا تزال في بداياتها ومكلفة نسبياً، إلا أنها تتطور بشكلٍ لافت، ناهيك عن أن الحجب قد يأتي بنتائج مغايرة، فقد يؤدي إلى ردات فعلٍ عكسية تدفع آخرين لتأسيس مواقع بديلة تكون [مغالية] في تفسير معنى الحرية أو الكتابة في مواقع غير عُمانية أو استغلال [ المتربصين ] من غير العُمانيين الفرصة لإنشاء مواقع توجه الرأي العام لأهداف غير حميدة .
من الممكن وضع عددٍ من الحلول لهذه العلاقة المعقدة بين المدافعين عن سقف الحرية الذي تتيحه شبكة المعلومات الدولية، وبين من يرى بضرورة الحرية المسئولة التي يجب أن يتحلى بها مرتادي شبكة المعلومات الدولية، نذكر منها:
1- الدعوة لعقد ندوة وطنية حول [ أخلاقيات وضوابط استخدام شبكة المعلومات الدولية ] أرى أن تتبناها هيئة الإدعاء العام، كونها طرف أساسي في الموضوع، ويُدعى إليها كل من له علاقة وثيقة بهذا الجانب، وعلى رأسها المواقع الحوارية لدورها المتنامي في توجيه الرأي العام، وأصحاب المدونات، أو من يرون أنه يمثلهم، بحيث يستمع الطرفان لبعضهما، ويخرجان بنقاط يتفقان عليها، خصوصاً حول القوانين المنظمة للاتصالات والجرائم الإلكترونية، بحيث تكون نقاط الاتفاق مفتاحاً لعلاقةٍ جديدة بين الجانبين .
2- تعديل القوانين المنظمة للاتصالات والجرائم الإلكترونية، بحيث يعفى أصحاب ومدراء ومشرفي المواقع التي تقدم الرأي والرأي الآخر في السلطنة بصورة متوازنة، من العقوبة السالبة للحرية [ تلغى عقوبة الحبس] وقصر الأمر على الغرامة المالية المعقولة فقط، ولا شك أن هذا سيشجع أصحاب المنابر الإعلامية الإلكترونية على التعاون مع الجهات القضائية في حالة ارتكاب عضو ما مخالفةً جسيمة في الموقع الإلكتروني الذي يمتلكونه .
3- إعادة النظر في عقوبة الحبس بالنسبة للمشاركين في المواقع الحوارية الإلكترونية، الذين قد يكتب بعضهم قذفاً أو شتيمة في حق آخرين، وقصر الأمر على الغرامة المالية فقط، حيث لا شك أن الغرامة المالية ستدفعهم مستقبلاً لمراجعة كل حرفٍ يكتبونه .
4- العمل على إصدار قانون جديد للمطبوعات والنشر، وتخفيف شروط إنشاء محطات إذاعية أو تلفزيونية خاصة، لخلق إعلامٍ بديلٍ وموثوق .
تعليقات
إرسال تعليق