التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نبي المثقفين



خلال الأيام المنصرمة زار السيد جورج طرابيشي سلطنة عُمان، بناءً على دعوةٍ من بعض أبنائها. وقد اهتم المثقفون بهذه الزيارة أيما اهتمام فذاك يريد توقيعاً بخط يد جورج على أحد كتبه، وذاك يخف للقائه في المطار ومصافحته بحرارة، مع أخذ الصور التذكارية للمناسبة، وذاك يحرص على حضور أمسية جورج التي أقيمت بصالة الشركة العمانية للاتصالات بالموالح حتى يحظى بشرف مصافحته والنظر إليه عن قُرب، وآخر يحرص على تسجيل مداخلة في تلك الأمسية، ليشهد التأريخ بأنه قد تداخل مع "المفكر الكبير"، وليذهب مضمون تلك المداخلات إن كانت جيدة أو نصف جيدة إلى الجحيم، وآخر يحرص على أن يجلس معه جلسةً خاصة، فالمهم أن كل مثقف سجل موقفاً مع المفكر الكبير في هذه الزيارة، واستطاع أن يحوز شيئاً ولو ضئيلاً من مسوح طرابيشي.

  عندما أتذكر هذه المشاهد يقفز إلى ذهني مباشرةً تبرك الفئة المتدينة بالشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، وكيف أن كثيراً منهم يحرص على تقليده في أمور كثيرة عن علمٍ أو جهل، بل ويحرصون على حضور محاضراته، وتسجيل سؤالٍ فيها حتى يستفسروا عن أمرٍ يكونوا قد جهلوه، أو ربما للفت أنظار الشيخ إليهم، كما يقفز إلى الذهن ولع الشباب بالمطربين وحرصهم على التصوير معهم ومصافحتهم وأخذ توقيعهم، والحديث ولو لدقيقة معهم ومتابعة شئون حياتهم الخاصة ..

  قد يقول قائل وماذا في ذلك كله؟ والإجابة تكمن أن المثقفين دائماً ما ينتقدون انقياد عوام الناس لمثل التصرفات المذكورة أعلاه لدى تعاملهم مع الشخصيات التي تتمتع بحس الكاريزما سواء أكانوا سلاطين أو رجال دين أو ثروة أو شهرة، وأن الإنسان يجب أن ينظر إلى ما ينتجه أو يقدمه الشخص لا إلى الشخص نفسه، ولنسأل سؤالاً كم شخصاً – بصدق- قرأ معظم ما كتب جورج طرابيشي سواء في التحليل النفسي أو التراث ؟ وأقول قرأ وليس قرأ وفهم ؟ وكم شخصاً تأثر بجورج طرابيشي عن قراءة لا عن سماع ؟ وهناك الكثير مما يمكن أن يُسأل..ونستنتج من هذا أن المثقفين يقسمون أنفسهم بطرائق تصرفهم تلك إلى مراتب وفئات، وأن هناك مراتب مما يجب التبرك والتمسح به، ولا يهم إن كان المثقف قد قرأ له بعمق أو تأثر به فعلاً، وإنما لأنه من [ الكبار] فيرى لازماً أدبياً عليه أن يحضر محاضراته ويصور معه ويأخذ توقيعه ويدافع عنه لو رأى جوراً-من وجهة نظره- قد وقع عليه من آخرين، بل وربما يذهب إلى الاعتقاد أن ما جاء به ذلك المثقف " الكبير" غير قابلٍ للمناقشة ويجب الأخذ به كمسلمات، وينسى المثقف أنه بذلك يكون قد أعار عقله وفكره لآخرين وكّلهم أن يريحوه من عذابات البحث والتفكير ..ختاماً أن لا أقول أن لا نجالس أصحاب الفكر والرأي والثقافة أو لا نسعى إلى سماع رأيهم وتوجههم عن قُرب، لكن أقول أن يحدث ذلك بعيداً عن الانبهار والتقليد والعمل بما يقولونه كمسلمات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

برتراند راسل: ما الذي عشت من أجله؟

الصديق بهاء أبو زيد يُترجم لنا مقطعاً مضافاً لبرتراند راسل وهو في عُمر 84 عاماً، إلى الطبعة الجديدة من سيرته الذاتية، فلنقرأ ما كتب وتُرجم عنه: ثلاثة مشاعر، بسيطة لكنها غامرة بقوة، تحكمت في حياتي: اللهفة للحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لا تطاق لمعاناة البشر. هذه المشاعر، مثل العواصف العظيمة، عصفت بي هنا وهناك، في مسار صعب المراس، على محيط عميق من الكرب، يصل إلى حافة اليأس البعيدة. سعيت للحب، أولًا، لأنه يأتي بالبهجة الشديدة – والبهجة شيء عظيم لدرجة أنني مستعد أن أضحى بباقي عمري من أجل ساعات قليلة من هذه السعادة. سعيت إليه، ثانيًا، لأنه يخفف الوحدة – هذه الوحدة الشنيعة التي تجعل الوعي المرتعش للشخص ينظر من على حافة العالم إلى الجحيم البارد المبهم الخالي من الحياة. سعيت إليه، أخيرًا، لأنه بالتوحد مع الحب رأيت، بصورة صوفية، الرؤية المتنبئة للجنة التي تخيلها القديسين والشعراء. هذا ما كنت أسعى إليه وبرغم أنه ربما يبدو جيدًا جدًا بالنسبة لحياة بشرية، هذا هو ما وجدته، أخيرًا. بشغف مساوي سعيت إلى المعرفة. تمنيت أن أفهم قلوب البشر. تمنيت أن أعرف لماذا تلمع النجوم. وحاولت أن أ

إصدار جديد للدكتورة فاطمة الشيدي

صدر عن دار نينوى للدراسات والنشر كتاب [ المعنى خارج النص، أثر السياق في تحديد دلالات الخطاب ] للدكتورة فاطمة الشيدي، ومن المتوقع أن يعرض الكتاب بشكلٍ رسمي في معرض مسقط الدولي للكتاب المزمع عقده في نهاية شهر فبراير القادم، جديرٌ بالذكر أن هذا العمل هو الأول في النقد الأدبي للدكتورة، بعد عملها الروائي [ حفلة الموت ] .