التخطي إلى المحتوى الرئيسي

راسل: لماذا أنا عقلاني ؟

مقالٌ مهم لراسل عنوانه لماذا أنا عقلاني، من ترجمة الصديق بهاء أبو زيد ..


أنا، في هذه السن حيث يوجد نداءات عديدة للامعقول، عقلاني غير نادم. لقد كنت عقلانيًا دائمًا على حسب ما أتذكر، ولا أعتزم أن أتوقف عن كوني عقلاني مهما كان حجم النداءات للامعقولية. لقد استمعنا إلى خطاب، والذي أعتقد أنه أثر فينا جميعا، عن الرواد في الماضي الذين فعلوا كل ما يستطيعون لتشجيع حرية التفكير. وأفترض أنه يجب علي أن أتحدث عن الحاجة الكبيرة لاستكمال هذا المجهود في يومنا هذا، وعن كمية ما يتبقى هناك للذين يتعاطفون مع أهداف هذا المجهود ليحققوه. نحن لسنا عقلانيين كليةً، وأفترض أن الرجال والنساء لن يكونوا أبدًا. ربما، لو كنا كذلك، فلن يكون لدينا كل المتع التي توجد لدينا اليوم؛ ولكني أعتقد أن العقلانية الكاملة احتمال بعيد جدًا لنحذر منه كثيرًا، والنتيجة الأقرب المرجح أن نصل إليها ستكون بالتأكيد شيئًا جيدًا. أنا بدون شك أرى قدر كبير من اللاعقلانية مازال موجودًا في العالم.
بينما كان يتحدث البروفيسور جراهام والاس عن الوصايا التى قدمت للرابطة العقلانية، كنت أفكر: ما العقيدة وراء هذه الوصايا؟ ما هو قانون الإيمان وراءها؟ وماذا سيكون المذهب الذي ستكرس هذه التبرعات لنشره؟ بالطبع، يجب أن تكون حذر بعض الشيء، عندما تتعامل مع التبرعات والهبات، خشية أن تصبح أنت الآخر كنيسية جمع تبرعات (ضحك). على حسب ما أرى،  الرؤية الملتزمون بها، التى تحدثت عنها في مناسبة سابقة، هي أننا لا يجب أن نؤمن، أو نحاول أن نجعل الآخرين يؤمنوا، بأي افتراض لا يوجد عليه دليل مهما كان. هذا يبدوا اقتراحًا معتدلًا، وإذا استطعت أن تتمسك به ستكون متأكدًا تمامًا أنك لن تكون نوع ما من كنائس جمع التبرعات المتحجرة. يجب أن نتجنب حالات الإنكار الدوغمائي تماما مثل حالات التأكيد الدوغمائي؛ يجب فقط أن نقول أنه هناك العديد من الافتراضات الكبيرة التي يشعر الرجال والنساء أنهم متأكدين تماما من صحتها، لكن ليس لهم الحق بأن يشعروا نحوها بالتأكد، وعملنا كعقلانيين أن نحاول نجعلهم يروا هذه الأشياء غير أكيدة. لقد تم إخباري أنه كريه جدًا أن أتخذ هذا الموقف. لدي كتاب هنا منشور حديثًا أود أن أرشحه لكم. ربما تعرفون أو لا تعرفون أنه منذ فترة قليلة ماضية، تحت رعاية الجمعية الوطنية العلمانية، ألقيت محاضرة عن “لماذا أنا لست مسيحيًا”. الآن، يبدو أنني لم أعرف لماذا أنا لست مسيحيًا؛ وهذا كتاب ليخبركم لماذا لست مسيحيًا – لكاتبه السيد هـ ج وود، العضو المشهور إلى حد ما في جمعية الأصدقاء، الهيئة التي أكن لها احترامًا كبيرًا. كتابه يسمى لماذا السيد برتراند راسل ليس مسيحيًا. ويبدو أن الأسباب ليست هي الأسباب التي كنت أظن أنها هي. هو يقول في جملة واحدة: “السبب الرئيسي أنه ليس مسيحيًا أنه ببساطة لا يعرف ما هو الدين”. الفرد ربما يقول أن السيد وود ليس لاأدريًا لأنه لا يعرف ما هي اللاأدرية. على العموم، لقد حصلت على كل مزايا التعليم المسيحي، وهو لم يحصل على مزايا التعليم الاأدري؛ ولهذا ربما تكون المرافعة ذات حدين. ومع ذلك، أرشح الكتاب لكم، وربما بعدها تعرفون لماذا أنا لست مسيحيًا.
هناك الكثير من المجهود العقلاني المطلوب في العالم. وأعتقد أن المعركة أعنف مما كانت. خذ، على سبيل المثال، الولايات المتحدة. الولايات المتحدة دولة مهمة جدًا. وما تفكر فيه الولايات المتحدة اليوم سيُجبَر باقي العالم على التفكير فيه غدًا، ولهذا أفكار الولايات المتحدة مهمة. هناك بعد الملامح حول أمريكا تبعث على التفاؤل. كنت مؤخرًا على سفينة متجهة إلى الولايات المتحدة، وقام كاهن ديني بدعوتي لأن أتكلم إلى طائفته عن آرائي في الدين. قلت: “لابد أن طائفتك متفتحة العقل جدًا”؛ ففاجئني هذا الكاهن وقال: “بالطبع، أنا لا أؤمن بالله”. وقد قابلت كهانًا آخرون في أمريكا يمشون على نفس الخط. يجب أن أقول أن هذا فاجئني إلى حد ما؛ لكن هؤلاء، للأسف، أقلية صغيرة، والغالبية العظمى من الأمريكان ما زالوا متدينين جدًا. علاوة على ذلك، يجب أن نواجه الموقف الخطير جدًا بسبب نمو الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الولايات المتحدة، لأن، حسب ما أرى، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ربما تسيطر على الولايات المتحدة خلال خمسين أو مئة عام فقط بالزيادة في الأعداد، وليس بالدعاية العقلانية. هذا أمر خطير جدًا، أمر أعتقد أنه سيؤثر جدًا في كل العالم المتحضر. بالطبع، أنتم تعلمون أنه بالفعل في بوسطن، التي كانت يومًا ما بيت البروتستانتية المتقدمة، الكاثوليك الرومان يحكمون المكان كله؛ وهناك رقابة على الأدب أكثر صرامة من أي مكان آخر في أمريكا. أتوقع أنكم تعرفون أنه في أمريكا ما زال الرجال يرسلون إلى السجون بتهمة الإلحاد، ليس فقط في الولايات الأصولية، لكن حتى في ولايات الشرق، وبالإجمال هناك في هذا الجزء من العالم حاجة شديدة إلى الدعاية حول هذه الأمور. هذا مهم لنا جميعًا، لأن الأمريكان يتجهون أكثر وأكثر ليحكموا العالم، وسوف نجد أنفسنا في موقف صعب جدًا إلا إذا استطعنا أكثر أن نحررهم – هذه المهمة، أستطيع أن أقول أنني فعلت ما أستطيع أن أفعل لتنفيذها، وزوجتي فعلت كذلك.
يجب أن نستوعب أن الموقف العقلاني، الذي عرفته أنه عدم الإيمان بافتراض أو جعل الآخرين يؤمنون به إلا عندما يكون هناك سبب ما يجزم بصحته، موقفًا ليس منتشرًا على الإطلاق. خذ مسألة التعليم، الذي تحدث عنها البروفيسور جراهام والاس. في معظم دول العالم عدد كثير جدًا من الافتراضات المشكوك فيها جدًا تدرس للصغار بتأكيد شديد، ويكبر الصغار وهم يقبلون هذا الافتراضات المشكوك فيها بشدة. لو حاولت في أي ظرف، مثلما أحاول أنا وزجتي في الوقت الحالي، أن تربي مجموعة صغيرة من الصغار ليكبروا أحرارًا من الخرافة، فسوف تجد نفسك في موقف صعب جدًا. سوف تجد، بالطبع، المال العام الذي يذهب إلى التعليم لن يذهب إلى أي تعليم لا ينطوي على أي عنصر خرافي؛ سوف تجد أن الدعم صعب جدًا لتحصل عليه؛ سوف تجد تمامًا أن من المعتقد فيه، رغم أن الرجال الكبار والنساء ربما يكون مسموحًا لهم أن يفكروا، فالصغار، عند أي فئة، يجب عليهم أن يؤمنوا بمجموعة كاملة من السخافات، وأنه من شبه المستحيل على الصغار أن يحققوا الحد الأدنى من الفضائل مالم تعرض عليهم عدد كبير جدًا من المرافعات الرديئة لصالح هذه الفضائل – المرافعات التي سيدركون حقيقة أمرها عندما يصبحون أكبر بعض الشيء؛ لكنه من المعتقد أن ما سيفعلونه عندما يدركون حقيقة أمرها ليس مهمًا إلى هذا الحد. أنا لا أستطيع أن أتبنى هذا الرأي. أنا أعتقد أن أي فضيلة تؤمن بها يجب أن تكون الفضيلة التي تستطيع أن تدعمها من البداية بدون أن تحتكم إلى أي شيء لا تؤمن به بنفسك. التعليم سيحتاج إلى أن يبدل بشكل هائل لو تم قبول هذا الرأي. أنا أؤمن أنه في الحاضر من غير القانوني في أي دولة في العالم ما عدا روسيا أن تعلم الأطفال بنفس الطريقة التي يعتبرها الممارسون الطبيون البارعون الطريقة الأفضل لصحتهم العقلية. هذه هي النقطة التي تتصادم معها القناعات اللاعقلانية، وهناك عدد من الطرق التي من المستحيل في الوقت الحالي تدريسها بعقلانية بدون الوقوف ضد السلطات. السلطات منظمة على قواعد معينة عقائدية لاعقلانية، وهذه العقائد ليست جميعها دينية. بعضها ديني، وبعضها من أنواع أخرى؛ لكن السلوك العقلاني للعقل هو سلوك نادر.
أعتقد أننا يجب أن نفعل ما نستطيع أن نفعله لنبين للعالم أهمية هذا الموقف، أننا لن نؤمن بشيء إلا إذا كان هناك سبب ليجعلنا نعتقد أنه صحيح. أعلم أن هذا ربما يكون صادمًا. من المفترض أن هناك أشياء كثيرة يجب أن تؤمن بها لأن الأشخاص الجيدين يؤمنون بها، ولكن ليس هناك أي سبب لها. أنا لا أتبنى هذا الرأي. أنا أعتقد أنا أي شيء يستحق الإيمان يجب أن تكون له أرضية إيجابية في صالحه.
هناك دائمًا أسباب جديدة مزعومة لصالح اللاعقلانية؛ الأشياء الجديدة دائمًا ما تظهر. خذ، على سبيل المثال، نوع الاستخدام الذي يستعمله الناس للتحليل النفسي. لو قمت بقراءة أعمال مؤسس التحليل النفسي، سوف تجد فيها موقفًا عقلانيًا بالكامل؛ لكن لو استمعت إلى بعض التابعين الصغار سوف تتخيل أن هذا المذهب قد تخلى تماما عن فكرة أن الآراء من الممكن أن تؤسس على العقل إطلاقًا. هذه بالطبع ليست حقيقته. سوف تجد دائمًا عدد من الأشخاص الماهرين مشاركين في أي انحرافات تظهر – مشاركين بقول أن آخر نتائج العلم تثبت أن الأشخاص الذين يعارضون العلم دائمًا يكونون في النهاية في الجانب الصحيح. هنا دائمًا يظهر الدجل. أي شخص يخبرك أن آخر نتائج العلم تثبت شيئًا ما، هو نفسه لا يكون عالمًا، ومن الممكن أن تكون متأكدًا تماما أنه يقول كلامًا فارغًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

برتراند راسل: ما الذي عشت من أجله؟

الصديق بهاء أبو زيد يُترجم لنا مقطعاً مضافاً لبرتراند راسل وهو في عُمر 84 عاماً، إلى الطبعة الجديدة من سيرته الذاتية، فلنقرأ ما كتب وتُرجم عنه: ثلاثة مشاعر، بسيطة لكنها غامرة بقوة، تحكمت في حياتي: اللهفة للحب، البحث عن المعرفة، والشفقة التي لا تطاق لمعاناة البشر. هذه المشاعر، مثل العواصف العظيمة، عصفت بي هنا وهناك، في مسار صعب المراس، على محيط عميق من الكرب، يصل إلى حافة اليأس البعيدة. سعيت للحب، أولًا، لأنه يأتي بالبهجة الشديدة – والبهجة شيء عظيم لدرجة أنني مستعد أن أضحى بباقي عمري من أجل ساعات قليلة من هذه السعادة. سعيت إليه، ثانيًا، لأنه يخفف الوحدة – هذه الوحدة الشنيعة التي تجعل الوعي المرتعش للشخص ينظر من على حافة العالم إلى الجحيم البارد المبهم الخالي من الحياة. سعيت إليه، أخيرًا، لأنه بالتوحد مع الحب رأيت، بصورة صوفية، الرؤية المتنبئة للجنة التي تخيلها القديسين والشعراء. هذا ما كنت أسعى إليه وبرغم أنه ربما يبدو جيدًا جدًا بالنسبة لحياة بشرية، هذا هو ما وجدته، أخيرًا. بشغف مساوي سعيت إلى المعرفة. تمنيت أن أفهم قلوب البشر. تمنيت أن أعرف لماذا تلمع النجوم. وحاولت أن أ

في وداع مجلس الشورى

 تمضي أعمارنا كومضات. في 1 أغسطس 2005م بدأت أول يوم عمل لي في مجلس الشورى. لقد كانت البداية ، كعادة البدايات، متحمسة. طُلب من أحد الموظفين المتمكنين، والذي سيصبح مديراً لي في بعض السنوات، أن يصطحبنا نحن الذين كنا نُعرف - وقتها- بالموظفين الجدد، في جولة عامة لأقسام المجلس. ببعد نظره كان يحذرنا من الحماسة البالغة التي قد تنتهي بنا إلى خيبات أملٍ وطرقٍ مسدودة، وهو الأمر الذي خبرناه في سنواتٍ لاحقة من حياتنا الوظيفية. بالنسبة لي، كان العمل في مجلس الشورى مدرسة حياتية متكاملة، فقد ساقتني الأقدار للعمل في تقسيماتٍ إدارية مختلفة بالمجلس، فمن اللجان باجتماعاتها المملة غالباً والمثرية أحيانا، إلى شعبة العلاقات الخارجية حيث تطغى الكلمات المحسوبة على المنفلتة، والمجاملات على المصارحات، والسفر على الإقامة،  مروراً بدائرة الشؤون القانونية، التي علمتنا كيف نمشي على حبلٍ مشدود تعلوه السماء وتقبع تحته هوةٌ سحيقة، ونهاية بالأمانة العامة المساعدة للجلسات والدعم البرلماني، حيث تتضح بيادق رقعة الشطرنج في داخل المجلس وخارجه. لقد كان من المُسلي، والمُحزن في نفس الوقت، على امتداد الأيام والأشهر والسنوات، مشا

إصدار جديد للدكتورة فاطمة الشيدي

صدر عن دار نينوى للدراسات والنشر كتاب [ المعنى خارج النص، أثر السياق في تحديد دلالات الخطاب ] للدكتورة فاطمة الشيدي، ومن المتوقع أن يعرض الكتاب بشكلٍ رسمي في معرض مسقط الدولي للكتاب المزمع عقده في نهاية شهر فبراير القادم، جديرٌ بالذكر أن هذا العمل هو الأول في النقد الأدبي للدكتورة، بعد عملها الروائي [ حفلة الموت ] .